• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

النعم الإلهية العظيمة المخصصة للأنبياء

د. زاهية الدجاني

النعم الإلهية العظيمة المخصصة للأنبياء

في حديث "سورة الأنبياء" عن داود وسليمان، فقد ركزت على موضوع النعم الإلهية عليهما، مشيرة أوّلاً إلى النعم المشتركة بينهما وبين غيرهما من الأنبياء وهي العلم والفهم، وفي هذا إظهار بأنّ العلم هو "أفضل الكمالات وأعظمها"، هذا، في الجزء المختص بداود وسليمان، قدم الله تعالى ذكر العلم على سائر النعم العظيمة الأخرى، وفي التركيز على علمهما، فقد ابتدأ الحديث الموجز عنهما بصدد قضية رفعت إلى داود من منطلق كونه الملك الحاكم في بني اسرائيل آنذاك. واشترك سليمان في التشاور بالحكم والتوصل إلى الحل، علماً بأنّ الفتوى الأكثر متانة أتت من جانب سليمان:

(وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء/ 78-79).

لشرح هاتين الآيتين، نرى انّه من الضروري أن نحضر ما ورد في كتب التفاسير عن القضية المشار إليها هنا. وقد روي في ذلك – "انّ حرثاً أي زرعاً... نفشت فيه غنم داود لغير أهله أي اكلته ليلا فجاء المتحاكمون إلى داود وعنده سليمان. فحكم داود بالغنم لصاحب الحرث عوضاً عن حرثه الذي اتلفته الغنم..."، ولكن كان لسليمان وجهة نظر أخرى في القضية تتمثل في قوله الآتي لداود "قال يأخذ صاحب الغنم الأرض فيصلحها ويبذرها حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا خرج الزرع ردت الغنم إلى صاحبها والأرض إلى ربها. وقد سرّ داود لذلك، وقال لسليمان "وفقت بابني وقضى بينهما بذلك".

بالنسبة للتعقيب على حكم داود وسليمان في صدد القضية المبنية هنا، يقول سيد قطب: "لقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث. وهذا عدل فحسب. ولكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء والتعمير، وجعل العدل دافعاً إلى البناء والتعمير. وهذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة. وهو فتح من الله والهام يهبه من يشاء". انّ تلك الفقرة لسيد قطب تبيّن في مضمونها بأنّ للعدل درجات، فقد يشير في إحدى درجاته تلك إلى اصدار حكم في قضية ما يعوض فيه المدعي بمقدار الخسارة الملحقة من قبل المدعى عليه (تعويض صاحب الحقل بالغنم على أساس أنّ ذلك يوفي بثمن الزرع المهلك من قبل الغنم الذي يملكه الطرف الآخر). ولكن في درجة أكثر رسوخاً، فالعدل يشير إلى حكم يفيد في البناء والتعمير (حكم سليمان الذي اتى بفتح والهام من الله عزّ وجلّ). انّ حكم سليمان هذا ينبه أصحاب المواشي بضرورة الفهم الصحيح لمبدأ الحقوق والواجبات، من خلال حثه الضمني على الصدق، وعدم الإهمال في التصرف. فالذي يفلت الزمان لماشيته لترعى بالليل دون مراقبة لها ولتفسد وتدمر زرع الآخرين؛ لابدّ وأن يجازى نتيجة أهماله، يتحمله لمسؤولية إصلاح الأرض المعنية بالأمر وبذرها. وبذلك، يعرف قيمة الزرع، ويرعى حقوق الآخرين مستقبلاً. فإنّ التكفل بزراعة أرض أفسدت من الغنم ليس بأمر سهل، بل يحتاج إلى جهد وعناء جسدي، وبذل مالي. أما إعطاء صاحب الزرع الغنم للانتفاع بألبانها وصوفها ونسلها إلى حين إعمار الزرع له، فذلك يعوضه مادياً ومعنوياً، حتى تعود الأرض ثانية له.

وبذلك، فالحكم – بالإطار الأزلي – موجه نحو إرساء قواعد النظام في أي مجتمع زراعي معني بالأمر. بالنسبة للمزارعين، فعليهم المحافظة على زرعهم من خلال توفير حراسة تشمل اليوم كله، بليله ونهاره، مع إقامة أسوار أو غيرها لمنع تدفق الماشية إلى حقولهم. فذلك يحدد الملكية، ويبيّن الحرص عليها. ولكن فيما يتعلق بأصحاب حقولهم. فذلك يحدد الملكية، ويبيّن الحرص عليها. ولكن فيما يتعلق بأصحاب المواشي، فليس من حقهم توفير الغذاء لقطعانهم من خلال إفلاتها في الأراضي المزدهرة للغير. فهذا يشكل تعدياً على حقوق المزارعين، وإلحاق الضرر بهم. وهذا أمر مخالف للشرائع والأخلاق. ويستحق العقوبة لإرساء قواعد العدل. هذا، والآيتان "77" و"78" من "سورة الأنبياء" تركزان على ضرورة إقرار العدل الاجتماعي، حتى لا تسود الفوضى، التي تؤدي بدورها إلى عدم الاستقرار، والتفكك في أيّ مجتمع معني بالأمر خلال التاريخ الإنساني. هذا من جانب، أما من جانب آخر، فإنّ الآيتين المذكورتين أعلاه تبينان بأنّ الله تعالى شاهد وعليم بما يحكم به المحكمون. فقد كان شاهداً عليماً بما حكم به كل من داود وسليمان. على أن فيضه، عزّ وجلّ، بالحكم المتين على سليمان بطريق الإلهام، يبين بأنّ الفصل بالإمور المعقدة يحتاج إلى العون السماوي، حتى يكون الحكم حكم عدل، دافع للبناء والتعمير. وذلك أمر يسري، حتى على الأنبياء، فكيف إذن بالقضاة العاديين من أبناء البشر؟ وبهذا الإطار، فالهدف هنا يكمن في حثّ كلّ من يعمل في حقل القضاء على النظر بالقضايا، وتمحيصها عن علم دقيق ولكن بالتوكل على الله تعالى، حتى يكون الحكم ناجحاً وموفقاً.

(نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف/ 76).

ومن الحقل القضائي الذي اشترك فيه داود وسليمان، ركز سياق السورة على الإشارة إلى بعض النعم الإلهية التي حظي بها داود أوّلاً، ثمّ سليمان ثانياً، إضافة إلى نعمتي الحكم والعلم اللتين شملتهما معاً (وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا). بالنسبة لداود، فمن النعم الخاصة به تسخير الجبال والطير معه (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ). وفي تعقيب على هذه الآية، يقول سيد قطب "ومن النص القرآني نتصور داود وهو يرتل مزاميره، فيسهو عن نفسه المنفصلة المتميزة المتحيزة. وتهيم روحه في ظلال الله في هذا الكون ومجاليه ومخلوقاته الجوامد منها والأحياء. فيحس ترجيعها، ويتجاوب معها كما تتجاوب معه. وإذا الكون كلّه فرقة مرتلة عازفة مسبحة بجلال الله وحمده. "وانّ من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم".. انما يفقه من يتجرد من الحواجز والفواصل، وينطلق مع أرواح الكائنات، المتجهة كلّها إلى الله". ويمكننا الإضافة إلى فقرة سيد قطب تلك بأنّ النفوس المؤمنة إيماناً خالصاً بالله تعالى، لا تشعر بالراحة إلا في الاتصال مع الله عزّ وجلّ، من خلال البحث والنظر في خلقه، والاهتداء إلى أنّ سنته في الكون هي سنة نظام وعدل بلا تغيير ولا تحويل وبذلك تبلغ مبلغاً عظيماً من الكمال الروحي الذي هو أساس الحضارة للبشرية. بالنسبة لداود – كنبي ملك – فاتصاله بالله تعالى من خلال ترتيله لمزاميره، بخشوع تام وعقل مستنير، هداه إلى الإحساس بخضوع الجبال الكلي – وهي جماد – إلى الله تعالى، إضافة إلى الطير. وهذا يعني أنّ الجبال والطير شاركته في التعظيم لله عزّ وجلّ، خالق الكون وكلّ ما فيه، وهو يرتل مزاميره بصوته المتسم بالخشوع، وقلبه المليء بالإيمان. على انّ ذلك بدوره لدلالة على التوحيد، هذا مع العلم بأنّ التوحيد يشكل القاعدة الجوهرية للحكم الصحيح. وداود هنا يشكل مثلاً في مجال الحكم. فالآية تحمل حثاً ضمنياً لولاة الأمور، في كلِّ زمان ومكان، إلى البعد عن الاستكبار الذي قد ينتج عن الغرور بالسلطة والمال، والتذكر بأنهم يخضعون لله تعالى، تماماً كالجبال الموجودة في أراضيهم والطيور المرفوفة في سماء بلادهم. ولو لم يتذكر بعضهم تلك الحقيقة، لعاد ذلك بالوبال عليهم. فما قصة فرعون، الطاغية زمن موسى، إلاّ مثلاً لإنزال العقاب الإلهي على هذا الحاكم وحاشيته، وذلك لاستكباره وادعائه بالألوهية،. وما تبع ذلك من بطش وإرهاب بالمحكومين.

ولكن بالعودة مرة أخرى إلى موضوع الرعاية الإلهية التي حظي بها داود، الذي أكثر من التسبيح لله كتعبير عن شكره له، وإخلاصه لعبادته وحده، يركز سياق السورة الآن على ما وهبه الله تعالى لداود من نعم، كملك مسؤول عن حماية البلاد الخاضعة لحكمه وقتئذ:

(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (الأنبياء/ 80).

"أي وعلمناه صنعة الدروع وقد كانت صفائح فجعلها حلقاً، فتمنع عنكم إذا لبستموها ولقيتم أعداءكم أذى الحرب من قتل وجرح ونحوهما... فاشكروا الله على ما يسره لكم من هذه الصنعة التي تمنع عنكم غوائل الحروب وتقيكم ضرها وعظيم آذاها". إنّ هذه الآية تبين – بالإطار الأزلي بأن على القائمين بشؤون الحكم في أي مجتمععلى مرّ الأزمنة – ان لا يكتفوا بإعداد جيش للدفاع عن البلاد، بل للتوصل إلى توفير الوسائل الكفيلة بالمحافظة على هذا الجيش من أذى الحرب من قتل وجرح وما شابه ذلك. هذا من جانب، أما من جانب آخر، فهي تشير إلى وجوب التقدم التقني من عصر إلى آخر. فما يصلح لعصر ما، لا يصلح لعصر آخر. ومن هنا، فعلى الإنسان أن يتوجه بفكره نحو الاكتشاف ولكن مع التوكل على الله تعالى؛ على أساس أنّه، عزّ وجلّ، هو مصدر العلم للإنسانية:

(عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 5).

هذا، وبما انّ العلم الذي تلقاه داود من الله عزّ وجلّ، كان لوقاية جيشه من أذى الحرب، فالآية توجه أبناء البشر نحو الاكتشاف البناء، لا الاكتشاف الذي يجلب الضرر للإنسانية. والاكتشاف النافع مقترن دوماً بالتوكل على الله عزّ وجلّ.

هذا بالنسبة لما ورد عن داود في "سورة الأنبياء"، ولكن فيما يتعلق بالنعم التي اختص الله تعالى سليمان بها، فهي تتمثل في الآيتين التاليتين:

(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) (الأنبياء/ 81-82).

تعقيباً على الآية (81) من "سورة الأنبياء"، يقول سيد قطب: "والأسلم... أن نفسر تسخير الريح بتوجيهها – بأمر الله – إلى الأرض المباركة في دورة تستغرق شهراً طرداً وعكساً... كيف؟ لقد قلنا: انّ القدرة الإلهية الطليقة لا تسأل كيف؟ فخلق النواميس وتوجيهها هو من اختصاص تلك القدرة الطليقة. والمعلوم للبشر من نواميس الوجود قليل. ولا يمتنع أن تكون هناك نواميس أخرى خفية على البشر تعمل، وتظهر آثارها عندما يؤذن لها بالظهور: "وكنا بكلِّ شيء عالمين".. العلم المطلق لا كعلم البشر المحدود". ومن النقاط الهامة هنا انّ الآية (81) من السورة، تدعو الإنسان ضمنياً إلى استمرارية البحث والنظر في الكون، والتماس العون من الله عزّ وجلّ، حتىى يهتدي إلى ما يسمح الله له بمعرفته من أسرار الكون وسنن الحياة خلال تاريخه، فالله تعالى يهب العلم للإنسان بحدود:

(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85).

ولكن للعودة ثانية إلى سليمان، نرى أنّه بعد التحدث عن موضوع تسخير الريح إليه، انتقلت السورة إلى موضوع تسخير بعض الشياطين له للغوص في البحار، واستخراج اللؤلؤ، بل وتجاوز ذلك إلى الأعمال والمهن وإنشاء القصور، واختراع الصنائع المدهشة. كما ورد في قوله الكريم:

(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ) (سبأ/ 13).

"وأما الصناعات فمثل اتخاذ الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون". هذا، وقد بينت آية (82) من "سورة الأنبياء"، بأنّ الله تعالى يحفظ هؤلاء الشياطين العاملين "عن الزيغ عن أمره أو الخروج عن طاعته"، انّ هذه الآية تزود الإنسان بمعلومات عن العالم اللامرئي بالنسبة له. فهذا العالم يخضع بمن فيه لله عزّ وجلّ، ومنه سخر لسليمان من يغوصون به ويقومون بأعمال دون ذلك، مع حفظهم من الهرب أو الإفساد.

وبالوصول إلى هذه النقطة، ينتقل السياق للحديث المختصر عن أنبياء أخر، عانوا من مصاعب أو كوارث في حياتهم، فصبروا، فأزيل الغم عنهم بالرحمة الإلهية.

 

المصدر: كتاب سورة الأنبياء (مفهوم اقتراب الحساب)

ارسال التعليق

Top